على رأسها الهجليج والكركديه والعراديب وحلفابر وبلح السكر ولبان الدكر الطب البيئي البديل في حلايب وشلاتين… حينما ينمو العلاج بين شوك النبات ورمال الصحراء ”صيدليتنا في الوادي، ليست في الجدران.”

هنا في حلايب وشلاتين جنوب البحر الأحمر، لا تزال الحياة تُعاش كما أرادتها الطبيعة لسكانها، ويظل الإنسان قريبًا من الأرض والسماء، يستمد من الشجر ترياقًا، ومن الأعشاب والنباتات علاجًا، حيث تتداخل الجبال الصخرية مع الأودية الجافة، وتُغمس رمال الصحراء في زرقة البحر. تنمو أشجار الحكمة وسط شوك النبات، ويحيا الطب البديل لا في العيادات بل في الذاكرة؛ لا تُصرف فيه الوصفات عبر روشتة ورقية أو إلكترونية، بل تُهمس في أذن المريض ليتجه إلى العطارين لشرائها.
فدخان "الحرمل" يُستخدم لطرد الحمى من الأطفال، وتُغلى أوراق "العشرق" لعلاج الإمساك والسموم، ولا يرى أهل حلايب وشلاتين في الطب الشعبي بديلًا، بل أصلًا وضرورة، وطوق نجاة في مناطق لا تصلها سيارات الإسعاف إلا بعد فوات الأوان، ولا تتوفر فيها صيدلية إلا بعد مسافة وعناء. فالأمر لا يتعلق فقط بغلي أوراق أو طحن جذور، بل بثقافة كاملة ترى في الطبيعة شفاءً، وفي العلاقة بالبيئة توازنًا ونجاة.
وأكد محمد طاهر سدو، شيخ مشايخ حلايب وشلاتين، أنه مع موسم سقوط الأمطار في بادية حلايب وشلاتين ونمو النباتات الطبية والعطرية في الأودية الجبلية، تشهد أسواق العطارة بالشلاتين رواجًا تجاريًا واسعًا، حيث تظل خلطات العطارين بديلاً شعبيًا يجد إقبالًا من المواطنين، بل وملاذًا للتداوي رغم تطور الطب. فمع اقتراب فصل الشتاء، يتحول سوق العطارة إلى صيدلية مفتوحة تضم كل ما يطلبه الباحث عن الشفاء، من الأعشاب الطبية الجبلية وحتى خلطات تقوية المناعة. وتكتظ المحال بأعشاب من البيئة الصحراوية، إلى جانب منتجات سودانية وأفريقية ومصرية، وعلى رأسها الكركديه، والتمر الهندي، والسمسم، وبلح السكر، وهي منتجات طبيعية تمامًا لا تدخلها الأسمدة أو الكيماويات. ويجد الزائر أيضًا عسل النحل الجبلي من محمية جبل علبة، وتوابل تُستخدم علاجًا قبل أن تكون نكهة، بالإضافة إلى الأبَنوس وطقم مشروب "الجَبنة" التقليدي، وأعشاب مخصصة لفصل الشتاء مثل الهجليج أو "اللالوب"، فضلًا عن خلطات شعبية لمشكلات القولون، تساقط الشعر، آلام المفاصل، وضعف المناعة.
واكد محمد آدم، أحد العطارين في السوق التجاري بشلاتين، فإن خلطة العنبر تزيل الجلطات، وزهرة البابونج مع الكهرمان والبردقوش والكراوية المغربية تُعد من أفضل علاجات القولون، و"المارونجا" لحساسية الصدر، و"الحلفا بر" للمسالك البولية، و"العراديب" للمعدة وتقوية القدرة الجنسية، بينما تُستخدم الحلبة والكركديه لزيادة لبن الأم، وورق الرمان ولبان الدكر لعلاج مشكلات الصدر والبرد. في هذا المشهد الحي، تظل الأعشاب حاضرة رغم العصر الرقمي، ويتعامل معها السكان كصيدلية متكاملة لا تغلق أبوابها. ويؤكد آدم أن نبات "أبو سبع ورقات" يُستخدم منذ قرون لعلاج لدغات العقارب، حيث يُطحن ويُوضع كلبخة على الجرح فيوقف انتشار السم، ويقول: "صيدليتنا في الوادي، ليست في الجدران."
وأضاف آدم: "نحن لا نأخذ حبة دواء إلا إذا عجزت أوراقنا وأغصاننا... ونعرف نباتات تداوي الحمى، وتخفض الضغط، وتوقف النزيف. بعضها نغليه، وبعضها نطحنه ونضعه على الجرح. هذه المعرفة تعلمناها من آبائنا، ونعلمها لأولادنا كما نعلمهم الصلاة. فـ"العُشار" للربو، و"الحرمل" للصداع وطرد الأرواح، و"الضريس" لوقف النزيف. الطبيعة علمتنا، أغنتنا، وما زالت تكفينا."
وأكد الدكتور الدوشي مهدي، بكلية علوم الأزهر بأسيوط، أنه خلال السنوات الأخيرة زار عدة مناطق وأودية جبلية في حلايب وشلاتين، حيث بدأ باحثون من جامعات مصرية مثل جنوب الوادي، وأسوان، وأسيوط، في توثيق هذا التراث من الأشجار والأعشاب والنباتات بالتعاون مع أهالي المنطقة. وقد تم تسجيل أكثر من 45 نوعًا من النباتات الطبية التي يستخدمها سكان حلايب وشلاتين، بعضها لا يُستخدم في أي مكان آخر في مصر. التراث هنا ثري ويحتاج إلى حماية قبل أن يندثر تحت ضغط العولمة وتغير نمط الحياة. إنها دعوة لإعادة النظر في علاقتنا بما حولنا، وأن نعي أن الدواء لا يُصنع فقط في المعامل، بل قد ينبت من شجرة صبورة على صخرة نائية، لا يعرفها إلا من حفظ التراب وعاش الطبيعة معلمًا ومُداويًا.
وأضاف مهدي أن البحوث العلمية أثبتت فعالية هذه النباتات، لاحتوائها على مركبات مثل الفلافونويدات، والصابونينات، والتربينويدات، ذات الخصائص المضادة للبكتيريا والالتهابات. فبين الطبيعة البكر وحياة الإنسان القبلية، لا تزال قبائل حلايب وشلاتين تحفظ إرثًا طبيًا نادرًا، يُعرف بـ"الطب البيئي التقليدي"، يستمد أسراره من صبر النبات، وتجارب الأجداد، وبصيرة لا تُعلَّم في جامعات، بل تنمو في صدور الشيوخ والعطارين.
وطالب مهدي بإنشاء قاعدة بيانات رسمية أو بنك معرفة يُوثق هذا التراث، مؤكدًا أن اتفاقية اليونسكو لحماية التراث اللامادي تتيح تصنيفه ضمن الثقافة الوطنية، مع ضرورة تأسيس مراكز للطب البيئي المجتمعي في حلايب وشلاتين، يعمل بها أبناء المنطقة بعد تدريب علمي، لضمان حفظ المعرفة وتطويرها.